صانع الأفلام
تسير العجوز في طريقها المعتاد قاصدة منزلها وعلى غير العادة تنتبه للنسوة وتتوقف هي ويستوقفني أنا المشهد، أسرعْت بإخراج هاتفي والتصوير. بعد شهور توقّفت عند الصورة ووجدت اسقاطات سينمائية لحياة واقعية بمنتهى الدقة.
هناك، في الأفق البعيد، مجتمع مكتظ، تتراكم فيه القصص، أما في الطبقة الأولى (الأقرب للناظر) عجوز، وبين الطرفين المرأة؛ لكنّ في هذا اجتزاء لصيرورة صبية وأحلامها. حتى صارت امرأة.
يربي المجتمع الأنثى، فتكبر وتلد له أطفالاً. يكبر المولود ويصبح امرأة؛ تسند مجتمعاً بأكمله بمثابرتها وجهدها المنقطع النظير، ثم تصبح عجوزاً مرة أخرى. هذا ما نعرفه. غير أن للحكاية وجهة نظر فلسفية أخرى تتآمر فيها الصورة مع الأنثى لتظهر التفاصيل التي غابت عنّا، تتشكل ذروتها بكون رأس الختيارة مطابق تماماً لحوافّ البيوت، وكأنها إطاراً للمجتمع. حاضن لتفاصيله. لا يكون إلّا بها لا يحلو إلّا بوجودها.
ولأن هذا المجتمع ما صار إلا بعد تعب. فتجتمع عناصر الصورة لتروي الحكاية من البداية.
تتميز الصور الثابتة بغيرتها من المشهد السينمائي الحيوي فتستغل بأنها تثبُت على لحظة محددة ما قبلها وما بعدها ليسا بذات اللّذة. وبهذا تسحر الأعين وتكثّف المعنى ومعه الإحساس، وهي بدورها تتفوق على المشهد بأنها لا تبحث عن مكان بل المكان يأتِ إليها. وتزيد على ذلك تميزها بأنها تتعاون مع التضاريس لإضفاء الفلسفه التي يبحث عنها المخرج، فتشكّل قصة متكاملة تمر في وهلة واحدة ندركها ولا نفهمها. وحتى تعكس لنا كيف تقوم المرأة ببناء مجتمعاً قوياً كان أن احتوت الصورة على هبوط حاد بين المرحلتين، بين المجتمع والختيارة. في تآمر ثان للصورة مع الأنثى. وذلك باستغلالها طبيعة المكان لتنقل لنا بتشبيه بصري بليغ قسوة الشروط التي تنزل عنها المرأة أحياناً لتمر اللحظة بهدوء فيُبنى على هذه اللّحظة خطوات جديدة لمجتمع خال من المشاكل؛ فنتاج الانتقال من مرحلة (المجتمع) والوصول لهذه المرحلة من العمر (الختيارة)، يتحتم نزول هذا الإنحناء الحاد بغاية صعود الطريق نحو رأس الإرتفاع، إلى النقطة التي بها الحجة؛ وهو تعبير بصري بليغ باتجاهين، الأول قبولها النزول عن رغباتها لصناعة جيل، الثاني، لا يحدث هذا النزول إلا بتنازلها عن (الأنا)، ما يصنع بداخلها حالة من الخفة تجعل المرأة خالية من شيء إلّا وجه الله عز وجل؛ تذوب معها طموحاتها وآمالها الشخصية وتنحصر في نجاح واتزان عائلتها، وبهذا تكون هذه المرحلة (الحجة) باكورة لمسيرة وليست بلاءاً ولا (عجزاً) بل فخراً بمنجز. وعبوراً للحظات صعبة ما كان لغيرها إتقان هذا العبور.
ما هو مؤلم وواقعي في آن أن مساحة المجتمع والحجة في الصورة متساويتين لكن مساحة المرأة صغيرة للغاية، وهو انعكاس مرئي بليغ لطبيعة الاهتمام الجَمعي تجاه الأنثى، فهي إما الصبية-الحبيبة أو الجدة. أمّا الأم-المرأة فهذا دورها التقليدي المعروفة به؛ ولا حاجة للتأكيد عليه. هي (تلقائياً) خُلقت لهذا الدور وهذا شيء (بديهي) تقوم به. وهذا أول كسر للقواعد تقوم به المرأة بأن أماتت قاعدة بأن تكون الذروة في المنتصف.
حتى في ذروة عطاءها تسمع وحدها الضجيج أما نحن فنشاهد حياة تترتب لوحدها.
تسمّرت الحجة في مكان وكأنها كانت تقصده مسبقاً، كأنها في جلسة تصوير، فتصاعدت الأحداث وبدت التفاصيل في المكان كلوحة رُسمت بعناية. الحجة التي تسيطر على الصورة، المجتمع في الخلفية الذي يتسارع دون اكتراث للمشاعر، فظهر العنصران بشكل يشبه فرجار رسم المرأة وتحركاتها.
غير أن الصورة تآمرت هنا مرّة أخرى؛ فكانت نسبة الخضار المتوهّج، عند النّسوة، وكأن فترة التعب هذه هي ما يحقق لها نصيب الآخرة المثالي. هي العطاء الحقيقي. “دائم الخضرة يا قلبي”. هي ما سيتوّجها إطاراً للمجتمع وضابطاً له. ما أكثر ما تتآمر الصور مع الأنثى.
الحجة بدورها لا نرى وجهاً لها، والنسوة بطبيعة الحال قد تم التشويش على وجههما لاعتبارات اجتماعية، وهنا تكتمل الحكاية بتضحية المرأة بأن تكون جندياً مجهولاً يصعد على أكتافه المجتمع دون مكافئة تُذكر.
تنظر الختيارة للنسوة اللائي سيصبحن هي وقد تخففت هي من الدور. وهي في مواجهة مع المجتمع الذي صنعته. كأم بجهدها وكختيارة بظلّها، وتستعد للمغادرة.
بعد أن تغادر ستكون تركت المساحة للنسوة ليصبحن هن الجدات، ويكررن التجربة وإن بطرق مختلفة وأساليب جديدة، لكن الحقيقة الغائبة عن المشهد أن الصورة لم تحتوي ذكور، فهم هناك في الخلفية لا حاجة لمعرفتهم لأن أمهاتهم هن مرآتهم. وما كانوا لولا صنيعهن، فقررت الصورة الانتصار لهن وتكريمهن. وهنا تكون الصورة قد كذّبت أهم مقولة عرفها التاريخ: "المرأة نصف المجتمع".. بل المرأة كل المجتمع. نصفه بجسدها ونصفه الآخر بتضحياتها، وبهذا تكون الأنثى كسرت القاعدة الثانية.
تصوير ونص: همام فؤاد