المنطق والأم
إذا خانتك الملاحظة واعتقدت للحظة أن إبريز الكهرباء في الخلفية هو إيموجي يشعر بالذهول من مما يحدث فأنت لم تخطئ في شيء.
فمشاهدة عمود الميزان ودفته اليسرى في ميل شديد نحو الفراغ، رغم أن الميزان بطبعه يميل نحو الثقل وليس الفراغ، وبالتالي المنطق أن تميل الجهة التي فيها يد الأم للأسفل ومعها عمود الميزان لا التي فارغة فاعلم أن ما يحدث معاكس لكلّ ما هو منطق.
وهل يجتمع المنطق والأم معاً؟
ترى عمود الميزان وذروته (رأس الأم)، ومعه يدها (اليمنى)، هنا في تمثيل لواقع معمق بأفعال غير مرئية. واقع معكوس، كلّما زاد الثقل فيه خفّ الوزن، فالأوزان في علم الأمومة، لا تثقل في جسدها، بل تخف، يخف الجسد أو عنصر منه مع كل تعب، دمعة، مآثرة، ويزيد وزنه في العالم الموازي في الآخرة. فيصبح الفراغ ثقيلاً بانعدام الأمومة، ويصبح جسدها خفيفاً لذهابه جزءاً جزءاً للجنة ويبقى منظراً فقط نشاهده أمامنا ولا نعلم بالمعارك الخفية التي بداخله.
والجنة، التي هو في طريقه لها شيء لا يتمثله شيء، غير أن الصورة -التي هي بالأساس أخرجها ربّها (بديع السموات والأرض)، تدخّلت، وأبرزت لنا لقطة حصرية من الجنة عبر الشجرة التي بالأعلى تحني على رأس الأم، تستظل بها وتنظر وجه ربّها الذي ما خان وعده، في لحظة مجازية كونية، والمجاز هنا حقيقة.
والحقيقة -التي يدّعون أن لها أوجه مختلفة-، في علم الأمومة وجهها تفاصيله حادة لا تكذب. بل تصرخ وإن دون صوت؛ مثل ذلك الحلم الشرير في المنام وأنتَ تصرخ في صحراء قاحلة دون أن يخرج صوتك.
كيف؟
يسمع الجيران صدى صوت الباب وهو يرتطم بالجدار من قوة إغلاقه بعد دخولك المنزل، تدخل غرفتك غاضباً من لحظة ساءتك فأفسدت يومك بالكامل، فتنبهر بمنظر لم يخطر على بال بشر، كأنك لأوّل مرة تعرف غرفتك، كلّ شيء في مكانه الدقيق مرتب بطريقة لم تخطر على بال فوتوشوب نفسه؛ تصاب بذهول كيف اتّسعت غرفتك لكل العناصر التي كانت تملأ الجدران والسرير والمكتب والأرض وأنت لم تكن تجد مكان تمش فيه في الغرفة من شدّة الفوضى العارمة، بطريقة يصعب تفسيرها غير أن يد الأم يد إلهية، ولأنها كذلك، ولست وحدك من يقدّر صنيعها، بل غيرك يشهده لحظة بلحظة، إن كنتَ أنتَ تقدّره عابراً وغير معبّراً، فعباد الله ليسوا بشراً فقط، والحديد، هنا، ذو القوة والصلابة والمبتسبب بالأذى أحياناً، رقّ قلبه للأم، فلم تستطع قضبانه رؤية رأسها يميل دون أن تسنده خشية وقوعها. مع أنها لن تقع. لكنه آثر وفعل. لأنه استشعر أن وقوع الميزان وقوع للعدل، وإن وقع العدل تبخّر المنطق.
والمنطق إن ذهب ذهب كلّ شيء. نسيت أننا في علم الأمومة وعلم الأمومة ليس فيه منطق.
لذا، نهرب من علمها بعين ابنها لعلومها بعين ابنتها. فهناك مساحة للتعقيد والتعقيد عدو المنطق.
ما هو أكيد أن المشاهد، رغم كلّ هذا، قد خانته الملاحظة مرّة أخرى واعتقد أن الحديد تواجده هنا صدفة عابرة، لكن لو تعمّق في الفهم قليلاً لعرف أن الأشياء تُعرَّف بأضادها، فلم يكن لله أن يلمّح لليونة الأم وتعاملها مع كلّ الظروف ورضوخ الكون لها إلّا بالحديد وصلابته؛ أن يتواجد هنا تحديداً في هذه اللحظة فيسندها، وهو الذي عندما يتواجد في مكان يخرق الأجسام، فماذا بقي بعد أن يلين الحديد؟
والباب، المسكين، لا يتوقف أن يكون ضحيّة لغضب البشر، وهو، صحيح عنصر مشترك بين انفعال الذكر والأنثى في تفاعلهم مع يومياتهم الحزينة، غير أنه ليس الذكر كالأنثى، كما قال الله في القرآن، وعلى قياس هذا الكلام -نفسياً- فالذكر المسكين يبوح بكل ما عنده بلحظة غضب، وينفّس عن نفسه ليمر إلى اليوم التالي، أمّا الأنثى، بما وصفها عزيز مصر (إنّ كيدهن عظيم)، فلا نظرة في عينها ولا نغمة في صوتها تفهم منهم ما بها، وهذا يسجّل تراكمات عندها لا يحلّها سوى ربّها، لذا كانت من هي على بركة من خالقها، الأم. فتدخل البيت -الفتاة-، يحتار الجميع سويعات وسويعات في أمرها؛ تأتِ الأم، ببسمة، نظرة، حركة يد، ما وراءها ليس ما يظهر منها، تقرّ الأنثى بكلّ شيء.
سيخيل للقارئ أن النص يبالغ بربط أوصاف الله وصفات الجنة بصورة عابرة، إذ لا الله جلّ في علاه وضع عناصر الصورة بصفة موضوعية ظاهرة، ولا الجنّة هذا بنيانها، والحق أن الله ينسج عن بُعد ملامح مشهد فنقول سبحان الله رغم أننا لم نراه يفعل، والحق، أن رجلاً صالحاً يقع فيحجر عليه حائط من مصيبة كبيرة فنقول سبحان الله، والواقع أن الشجر والحجر، الذين يقاتلون مع المؤمنين في المعارك المصيرية التي تقرر شأن الدول، أولى بهم أن يكون دورهم الشهادة على ما صنع العبد في المعارك البطيئة -التي هي أصلاً ما يؤسّس للمعارك المصيرية- وما الشيء الذي شهد صنيع الأم غير تفاصيل البيت وزواياه؟
ولأن اليمين هو صبغة الجنّة وأهلها، فالفراغ صارَ ثِقَلاً ونزل نحو اليمين، (في عين المتفرج)، ليدوي صدى وجوده شاهداً لها أمامه أنَّه حتى من فقدَ أمّ فقد شعر بجوهر ضرورتها، وعلى هذا تكون على الحالين من أهل الجنة. لمجرد أنها صَبحت ذات لحظة أمّ.
مالت كفّة الميزان نحو الفراغ لتُظهر ثِقَل انعدام الأمومة، وسبَبَ ميلها ارتفاع يد الأم للأعلى لثِقَل الأعمال الصالحة فيها.
هل ما زلت تلوم على إبريز الكهرباء أنه في حالة ذهول؟
نصيحة: لا تنخدع بأشعة الشمس القادمة في الخلف، فهي تحاول سرقة الضوء من الأم بما قدّمت وضحّت وفعلَت.
اللافت؛ إن عدنا لأرض الواقع -بعيداً عن الفلسفة- أن الصورة تعطي انطباعاً وكأن الأم أسيرة تطل من سجن، ورغم ذلك الابتسامة العريضة لا تفارقها؛ وحتى العناصر المحيطة بها، تُضَيِّق عليها المساحة مع ذلك هي في حالة بهجة. وهي، تنظر ابنها الذي يغادر لقوت يومه أو لزوجه، مع ذلك وكأن عرساً يُذاع. والجواب، أنه، عند الأم، الضيق بوجود أبنائها اتّساع.
الصورة: قبلان تجمعنا
النص: همام فؤاد