الإشتباك الأخير
يبدو وجه العجوز كشخص تم استدعائه لمهمة مستعجلة لا تحتمل التأخير. وهو على غفلة من أمره لا يدري أهو خير أم هو شرّ. وبعد دقائق من الوصول، والحجة في لحظة تيه تتسائل ما الجديد في الأمر والمكان نفسه والعناصر نفسها، فما الذي استدعى كل هذه العجلة؛ رفعت يدها لتشيح بها على حفيدها الذي أتى بها، حتى تنهره عن مزاحه المعتاد؛ وفي اللحظة التي رفعت بها يدها للأعلى انتبهت أن لون ذراعها قد استقام أخيراً مع لون الشجرة. التفّت ونظرت للشجرة فارتشعت كل أركان جسدها من الداخل. وبحركة غير محسوبة مسكت الغصن وقبّلته، فهذه لحظة لا تحدث إلا مرة واحدة في العمر، ولأن الحفيد احتار في التمييز بين ذراع الجدة وبين غصن الزيتون؛ من شدّة تماهي اللّون، استغل لحظة إغماض عينيها المترتبة عن حالة الخشوع والتقط الصورة على غفلة حتى لا تشعر بالأمر -ليتدارس الحالة لاحقاً- فهي تكره التصوير لأنها تكره أن تظهر مشاعرها للناس فيعتقد مريض أنها تمثل هذه المشاعر وهي الحساسة ذات المشاعر الحقيقة النقية التي يمكن لها أن تبكي مقابل هذا الإتهام. وهي التي كانت كلّما أتى المصورون القدامى لقريتها وهي صبية طلبوا منها الابتسام للصورة، فصارت تعتقد أن الصورة ما هي إلّا اختراع جديد يعلّم الناس الكذب.
همّ الحفيد بالذهاب لغرفته ليتعرف على الكنز الذي وقع بين يديه للتو، وغرفة الحفيد تبعد بضعة أمتار عن الشجرة؛ وهي غرفة خارجية منعزلة عن بقية المنزل صنعها له جده على الطراز الحديث (نسبياً) وقتها وجعلها لوحدها لِما وجد من خصوصية عند حفيده، وفيها مكتبه الذي يبعد مسافة ثلاثة أمتار من شباك الغرفة؛ الذي منه يظهر جزء من الشجرة، جلس على مكتبه الأبيض، السادة، أمام جهاز كمبيوتر. عندما يجلس يصبح على يمينه الشاشة وعلى يساره الشجرة. وجد الحفيد ذات مرة غرفته على هذا الترتيب ولم يغيره بعدها. فتح الحفيد الصورة على شاشته ليميّز التفاصيل، وسُعد بأنه بسبب خجل جدته من التصوير خرج له كلّ هذا الخشوع في عينيها في الصورة، فهذه اللحظة يدفع ثمنها المصور ملايين لممثلة لتؤديها له، بينما أتته هنا جاهزة على طبق من ذهب، دون تعب، فالصورة غير أنها سجّلت حالة نادرة الحدوث وهي في ذروتها، لحظة اندماج لون الإنسان مع لون الأرض ونباته، كدلالة على تمام وفاءه، كانت له هذه النقطة الإضافية من الناحية البصرية، الخشوع.
رتّب أموره ليعرض الصورة، على أن يجلب معه جدّته لاحقاً، لترى نفسها وهي عنصر بين مجموعة من عناصر تشكل معالم مكان كبير يحتضن ملامح عن حياتنا في العصر الحديث؛ على أن هذا شيء ملفت وغير عادي! وحرص على تغليف الصورة بشكل مثالي حتى لا تتأثر من تردي الطريق المؤدي للمدينة، المدينة التي ظاهرياً بها كل شيء لكنّ اندماجها بالحداثة جعلها تبحث عن كل متصل بالتراث لسد الحاجة؛ عبر معرض ضخم، يظن الحفيد أن جدته ستهيم به، وستتغنى بصورتها فيه.
لطالما أراد أن يكون جزءاً فاعلاً من المعرض لكونه يغلب على روّاده نمطاً معيناً من اللّباس لا تراه إلّا في شوارع محددة في بعض المدن ذات التوجه المجتمعي الضيّق، وهؤلاء يحبون أن يدفعوا أمولاً طائلة على أشياء لا يفهمونها عادة لكن تروق لهم فكرة اقتنائها، شيء من المحاربة للبقاء لشعور بداخلهم عن قرب الفناء. وهذا غالباً لنمط الحياة الذي اختاروه والمعاكس تماماً من جدة هذا الحفيد التي وجدت نفسها تربّي تسعة أبناء. يظن الحفيد أن هذه الزيارة ستكون مصدر سعادة لجدته.
غير أنّ طريق الجدات القدامى في السعادة غير طريق الحفيد، فهو يبحث عن الأضواء وهنّ يبحثن عن الإنتماء. والإنتماء يخلقه الشقاء. عندها.
سمع صوت الباب وهو يُطرق، كانت أمّه تقف عند الباب في حالة صمت.
احتار وهو اليافع الذي لم يعتد هذا النوع من ردود الفعل الصامتة؛ لحق بخطوات أمّه فوجد جدّته مسجّاة على الأرض، انتقل ببصره بين ذراع جدّته وشجرة الزيتون ليكتشف أنّ ما التقطته كاميراته قبل يومين كان الاشتباك الأخير. كانت لحظة الوداع المبطّنة التي لم يعلم عنها سوى أصحابها، -الجدة والشجرة-، بما شعروا خلال العناق. حينها فهم لماذا عندما أنزلت جدّته يدها عن الغصن نزلا -يدها والغصن- بهدوء شديد كأن يداً عليا تحكمت بوداعهما وصنعت لهذا الوداع مشهداً حسّياً.
رأى حينها لأول مرة كيف يكون العناق قبل الفراق.
رَوَتْ له لغة الأشياء؛ كيف يكون الاشتباك، اشتباك عنصرين صعدت تفاصيلهما معاً فلم يعد بالإمكان تخلّص أحدهما من الآخر. اشتباك من مَهَرتْ حياتها للشجرة التي ستكون رزقه ودلاله وبهجته في المستقبل؛ -فأعطتها بالمقابل هذه الشجرة يوماً بعد يوم شهادة بصرية متراكمة بإصباغ لونها على ذراعها، حتى لا يأتي جاحد وينكر صنيعها مستقبلاً-؛ مع أوراق الشجرة وأغصانها، بطبيعتها وتدرجات لونها وتسبيحها، والتي سيحين بعد قليل موعد تقطيعها عن أمّها ليبدأ الجيل الجديد من أفرعها. ويسبق الجيل الحالي هذا الجيل للتنعم برؤية الخالق والمدبر.
نظر إلى ذراعه، وأصيب بصعقة بداخله، قد كبرُ للتو وفهم أن لكل جيل من البشر جيل من الزيتون وأنه غالباً حان الآن دوره هو. ربّما لن تتشبع يده بلون الغصن، لكنه بعد هذه اللحظة المأساوية حتماً سيتشبّع شيء ما فيه؛ تفاصيل وفكرة هذه الزيتونة الجليلة.
نزل إلى جسد جدّته قبل دفنها، قبّل يدها، شمّ عن غير إرادة رائحة الزيتون ونكهته في ذراعها، عاد لغرفته، تناول الكاميرا، وجلس، ثم نظر إلى شجرة الزيتون وهي تظهر من الشباك عن بعد ويده على الكاميرا.
تصوير: قبلان تجمعنا
نص: همام فؤاد